قسنطينة مدينة العطر والتاريخ
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
قسنطينة مدينة العطر والتاريخ
مدينتي تحتضنها من كل جانب هضاب وتلال وحقول ومزارع وقرى، تسكنها أعراش عريقة، كان لها الفضل في إنشاء المدينة الحاضرة قسنطينة. إنها تبدو حاضرة عجوزا تذوب في أعماقها الحضارات البائدة، وحاضرة شابة وهي تواكب أزمنة الإبداع والفن والجمال.
قسنطينة اسمها الحالي، وفي صفحات التاريخ اعتزت بأسماء أخرى كثيرة بكثرة من سعد بمروره عليها أو العيش فيها، ليدللها ويطلق عليها الاسم الذي يعجبه، ويربط وجوده بوجودها: "سيزار"، "سيفاقس" و"ماسينيسا" عشاقها المقربون، "ماكساس" عدوها وآسرها ومخرب آثارها الجميلة، ليأتي "قسطنطين" بعدهم يرمم ويجدد البناء ثم يربط اسمه بها، لتصبح قسنطينة بعد أن كانت "نوميديا" و"سيرتا" و"قيرطا" و"الحصن الإفريقي" وغير ذلك من الأسماء التاريخية.
لتعيش المدينة بعد ذلك عهودا وعصورا زاهرة مرة، ومنكسرة مرة، يترك كل عهد بصماته على إنسانها وعمرانها وثقافتها فتزدهر حياتها كل مرة، بثراء متجدد من العلوم والفنون والقيم الحضارية المختلفة، ثم ترسو آخر المطاف على شاطئ العروبة والإسلام عن رغبة وقناعة وإيمان، ولا يرضى لها بعد ذلك سكانها سوى اسم مدينة "سيدي راشد" إكراما لأحد رموز التراث الديني والحضاري من أبنائها.
لقد كان الرجل أحد العلماء وهمزة وصل في سلسلة الصراع والتصدي ضد عملية تشويه روح ومعالم المدينة، والتي كان يمارسها الاستدمار في الجزائر طيلة قرن وثلث القرن.
وزهور هاته التي تكتب هذه اليوميات، عرفت النور في إحدى قصبات هذه المدينة، حيث الحارات القديمة مغلّفة بشغاف القلب، والدكاكين الصغيرة معتزة فخورة بمهنها اليدوية وفنونها الذائبة مع ألوان الفجر، حيث يقف أصحابها على عتباتها في خشوع وقداسة يقدمون الولاء والوفاء لماض لم يبق إلا في قلوبهم ووجدانهم، فتجارتهم كسدت وأصبحت غير مربحة، وغير مطلوبة، وقد وفدت عليهم تجارة جديدة ومفاهيم جديدة لكل شيء، جاءت من الغرب المحتل لبلادهم، لتتغلغل شيئا فشيئا في واقعهم رغما عنهم، حضارة جديدة، كل خطوة تخطوها كانت على حطام أو أشلاء صرح قديم من الفكر والثقافة، والقيم الحضارية المميزة لشعب تضرب جذوره في أعماق التاريخ، تشوهها أو تعوقها، لينطلق البديل دون معوقات في شعب ساخن غير بارد، متحرك غير جامد، مرن غير متصلب، لتسكن الحضارة المغلوبة في القلوب والوجدان بعد أن انهزمت في الواقع ثم تخمد شيئا فشيئا دون أن تنطفئ.
لكن ومع كل ذلك، قاومت الفنون أشد مقاومة، حيث صمد نقاش النحاس، والصباغ، والدباغ، والحراز، وطراز المخمليات، لتصبح الأغنيات الوطنية الممنوعة وشعارات الحرية خيوطا حريرية ناعمة تزين أحذية العرائس، وبرانيس العرسان، وسروج الخيالة والفرسان، وطرابيش الأطفال يوم الختان.
صمد بائع العتيق من الأثاث المصدّف، الشاهد على أحقاب الزمن البهيج، صمدت قعدات القهوة الشعبية ورائحة البن مع نسمات الأصيل، وهي تنطلق من "جزوة" نحاسية زينت أطرافها بحروف البسملة والحمدلة.
صمد الوتر المرتعش باللحن الشعبي الأكثر عراقة، وظل محتوى كلماته ينشد الحرية واسترجاع السيادة، وعامت منابر المساجد والحمامات في المنمنمات الزاهية.
لقد كان صمودا لأشياء جميلة، وأفكارا أكثر جمالا ونبلا وقيما تميز شخصية عن أخرى، قيما تدافع عن الحق في الحياة لشعب كان يهدد كل يوم ببديل جديد، بديل يستعمل كل الوسائل، حتى وسيلة النار والدمار والإبادة.
في هذه المدينة عرفت نور الحياة، وأحسست مع جمالها بالروعة والتميز، وفي هذا الجو كنت أنمو وأكبر وأعيش، أبحث عن ذاتي في أصول هذه الفنون، في الطقوس الشعبية، في حكايات وأساطير ألف ليلة ليلة وأبي زيد الهلالي والزناتي خليفة ولونجة والغول والقمر العالي و"الحنش بوسبع رؤوس" ليصبح السؤال الحائر عندي في تلك الأجواء يكتسي صبغة المتعة وحرقة المعاناة.
في هذه المدينة ذات الجسور الرابطة لأطرافها، وأنت تجول فيها ترى الحياة السوية قد علقت مثل جسورها، البنات دون العاشرة يصبحن مشروع نساء، لا يحق لهن الخروج من البيت ولا التعلم ولا المرح واللهو الطفولي، في هذه السن العاشرة يجب أن يشرعن في التفكير في إتقان مهام النساء، الطبخ والنسيج والتزيين وغيرها، والحلم يجب أن يكبر بالرجل، ومع الرجل وحده، وأي حلم غيره لا يجوز، إنه يعتبر من الأحلام المدنسة، حتى يصبح الرجل الحلم غاية الغايات مهما كانت مواصفاته، إنه الفارس المنقذ وفيه وحده تتمثل كل أهداف الحاضر والمستقبل.
النساء في مدينتي محجّبات بملاءات سوداء من الرأس إلى أخمص القدمين، وعقاب من تخرج دون جوارب سوداء تحت الملاءة السوداء، داخل الحذاء الأسود "الشبرلة" عقابها أن تركب على حمار، يتجه وجهها إلى ذيله، يدور بالمرأة المتمردة الشاذة عن القاعدة، عدّة دورات في سوق المدينة، والأطفال يعايّرونها قائلين بفرح وتسلية "يا لملحفة بالحفاء" حتى تكون عبرة لغيرها ممن يفكرن في مثل هذا النوع من التمرد على العادات.
قيل إنها عادات تركية لا أصل ولا موضع لها في الإسلام، أما الملاءات فقيل إنها سوداء حزنا على أحد البايات الصالحين، وقيل أيضا أنها سوداء انتصارا للمذهب الفاطمي، إن المدينة وضواحيها هي مصدر المذهب، ألم تتأسس دعوة الفاطميين على يد صاحبها أبي عبيد في "ميلة" أهم ضواحي المدينة، وكلا الأمرين كانا وكأنهما موقف للمرأة، ربما هو موقف فعلا، لكنه موقف مفروض عليها، موقف لم تختره لا كلون ولا كمضمون، بل أرغمت على تبنيه والعمل به مثل المواقف الاجتماعية الأخرى.
منقول عن الكاتبة القسنطينية - زهور ونيسي-
قسنطينة اسمها الحالي، وفي صفحات التاريخ اعتزت بأسماء أخرى كثيرة بكثرة من سعد بمروره عليها أو العيش فيها، ليدللها ويطلق عليها الاسم الذي يعجبه، ويربط وجوده بوجودها: "سيزار"، "سيفاقس" و"ماسينيسا" عشاقها المقربون، "ماكساس" عدوها وآسرها ومخرب آثارها الجميلة، ليأتي "قسطنطين" بعدهم يرمم ويجدد البناء ثم يربط اسمه بها، لتصبح قسنطينة بعد أن كانت "نوميديا" و"سيرتا" و"قيرطا" و"الحصن الإفريقي" وغير ذلك من الأسماء التاريخية.
لتعيش المدينة بعد ذلك عهودا وعصورا زاهرة مرة، ومنكسرة مرة، يترك كل عهد بصماته على إنسانها وعمرانها وثقافتها فتزدهر حياتها كل مرة، بثراء متجدد من العلوم والفنون والقيم الحضارية المختلفة، ثم ترسو آخر المطاف على شاطئ العروبة والإسلام عن رغبة وقناعة وإيمان، ولا يرضى لها بعد ذلك سكانها سوى اسم مدينة "سيدي راشد" إكراما لأحد رموز التراث الديني والحضاري من أبنائها.
لقد كان الرجل أحد العلماء وهمزة وصل في سلسلة الصراع والتصدي ضد عملية تشويه روح ومعالم المدينة، والتي كان يمارسها الاستدمار في الجزائر طيلة قرن وثلث القرن.
وزهور هاته التي تكتب هذه اليوميات، عرفت النور في إحدى قصبات هذه المدينة، حيث الحارات القديمة مغلّفة بشغاف القلب، والدكاكين الصغيرة معتزة فخورة بمهنها اليدوية وفنونها الذائبة مع ألوان الفجر، حيث يقف أصحابها على عتباتها في خشوع وقداسة يقدمون الولاء والوفاء لماض لم يبق إلا في قلوبهم ووجدانهم، فتجارتهم كسدت وأصبحت غير مربحة، وغير مطلوبة، وقد وفدت عليهم تجارة جديدة ومفاهيم جديدة لكل شيء، جاءت من الغرب المحتل لبلادهم، لتتغلغل شيئا فشيئا في واقعهم رغما عنهم، حضارة جديدة، كل خطوة تخطوها كانت على حطام أو أشلاء صرح قديم من الفكر والثقافة، والقيم الحضارية المميزة لشعب تضرب جذوره في أعماق التاريخ، تشوهها أو تعوقها، لينطلق البديل دون معوقات في شعب ساخن غير بارد، متحرك غير جامد، مرن غير متصلب، لتسكن الحضارة المغلوبة في القلوب والوجدان بعد أن انهزمت في الواقع ثم تخمد شيئا فشيئا دون أن تنطفئ.
لكن ومع كل ذلك، قاومت الفنون أشد مقاومة، حيث صمد نقاش النحاس، والصباغ، والدباغ، والحراز، وطراز المخمليات، لتصبح الأغنيات الوطنية الممنوعة وشعارات الحرية خيوطا حريرية ناعمة تزين أحذية العرائس، وبرانيس العرسان، وسروج الخيالة والفرسان، وطرابيش الأطفال يوم الختان.
صمد بائع العتيق من الأثاث المصدّف، الشاهد على أحقاب الزمن البهيج، صمدت قعدات القهوة الشعبية ورائحة البن مع نسمات الأصيل، وهي تنطلق من "جزوة" نحاسية زينت أطرافها بحروف البسملة والحمدلة.
صمد الوتر المرتعش باللحن الشعبي الأكثر عراقة، وظل محتوى كلماته ينشد الحرية واسترجاع السيادة، وعامت منابر المساجد والحمامات في المنمنمات الزاهية.
لقد كان صمودا لأشياء جميلة، وأفكارا أكثر جمالا ونبلا وقيما تميز شخصية عن أخرى، قيما تدافع عن الحق في الحياة لشعب كان يهدد كل يوم ببديل جديد، بديل يستعمل كل الوسائل، حتى وسيلة النار والدمار والإبادة.
في هذه المدينة عرفت نور الحياة، وأحسست مع جمالها بالروعة والتميز، وفي هذا الجو كنت أنمو وأكبر وأعيش، أبحث عن ذاتي في أصول هذه الفنون، في الطقوس الشعبية، في حكايات وأساطير ألف ليلة ليلة وأبي زيد الهلالي والزناتي خليفة ولونجة والغول والقمر العالي و"الحنش بوسبع رؤوس" ليصبح السؤال الحائر عندي في تلك الأجواء يكتسي صبغة المتعة وحرقة المعاناة.
في هذه المدينة ذات الجسور الرابطة لأطرافها، وأنت تجول فيها ترى الحياة السوية قد علقت مثل جسورها، البنات دون العاشرة يصبحن مشروع نساء، لا يحق لهن الخروج من البيت ولا التعلم ولا المرح واللهو الطفولي، في هذه السن العاشرة يجب أن يشرعن في التفكير في إتقان مهام النساء، الطبخ والنسيج والتزيين وغيرها، والحلم يجب أن يكبر بالرجل، ومع الرجل وحده، وأي حلم غيره لا يجوز، إنه يعتبر من الأحلام المدنسة، حتى يصبح الرجل الحلم غاية الغايات مهما كانت مواصفاته، إنه الفارس المنقذ وفيه وحده تتمثل كل أهداف الحاضر والمستقبل.
النساء في مدينتي محجّبات بملاءات سوداء من الرأس إلى أخمص القدمين، وعقاب من تخرج دون جوارب سوداء تحت الملاءة السوداء، داخل الحذاء الأسود "الشبرلة" عقابها أن تركب على حمار، يتجه وجهها إلى ذيله، يدور بالمرأة المتمردة الشاذة عن القاعدة، عدّة دورات في سوق المدينة، والأطفال يعايّرونها قائلين بفرح وتسلية "يا لملحفة بالحفاء" حتى تكون عبرة لغيرها ممن يفكرن في مثل هذا النوع من التمرد على العادات.
قيل إنها عادات تركية لا أصل ولا موضع لها في الإسلام، أما الملاءات فقيل إنها سوداء حزنا على أحد البايات الصالحين، وقيل أيضا أنها سوداء انتصارا للمذهب الفاطمي، إن المدينة وضواحيها هي مصدر المذهب، ألم تتأسس دعوة الفاطميين على يد صاحبها أبي عبيد في "ميلة" أهم ضواحي المدينة، وكلا الأمرين كانا وكأنهما موقف للمرأة، ربما هو موقف فعلا، لكنه موقف مفروض عليها، موقف لم تختره لا كلون ولا كمضمون، بل أرغمت على تبنيه والعمل به مثل المواقف الاجتماعية الأخرى.
منقول عن الكاتبة القسنطينية - زهور ونيسي-
ouahid- الفيل الثاني
- عدد المساهمات : 100
تاريخ التسجيل : 28/05/2013
رد: قسنطينة مدينة العطر والتاريخ
مقال جميل مشكور
الأرنبة البيضاء- الوزير
- عدد المساهمات : 526
تاريخ التسجيل : 02/04/2012
رد: قسنطينة مدينة العطر والتاريخ
قسنطينة عاصمة الثقافة العربية
الأرنبة البيضاء- الوزير
- عدد المساهمات : 526
تاريخ التسجيل : 02/04/2012
مواضيع مماثلة
» مسابقة ماجستير قسنطينة 2013
» قسنطينة أمازيغية ليبيقية يا عثمان سعدي
» اعلان توظيف جامعة قسنطينة 3 جويلية 2013
» مسابقة دكتورا ماجيستير جامعة قسنطينة 2013
» قسنطينة أمازيغية ليبيقية يا عثمان سعدي
» اعلان توظيف جامعة قسنطينة 3 جويلية 2013
» مسابقة دكتورا ماجيستير جامعة قسنطينة 2013
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس 10 يونيو 2021 - 12:49 من طرف الفهد الابيض
» وزارة التعليم العالي تقترح مسودّة مشروع وتستعدّ لسنّ قانون جديد
الخميس 17 مارس 2016 - 9:57 من طرف الفهد الابيض
» 28 مارس بداية التسجيل لمسابقة توظيف 28 ألف أستاذ
الخميس 17 مارس 2016 - 9:42 من طرف الفهد الابيض
» الذكرى الـ 54 لعيد النصر ووقف إطلاق النار
الخميس 17 مارس 2016 - 9:32 من طرف الفهد الابيض
» التوظيف بدايتا من مارس
السبت 13 فبراير 2016 - 23:29 من طرف الليث الأصفر
» مكتبة المدرسة
الخميس 28 يناير 2016 - 10:06 من طرف الفهد الابيض
» الجدول الدوري عناصر كيميائية جديدة
الثلاثاء 26 يناير 2016 - 15:26 من طرف الفهد الابيض
» زيت الزيتون بركة،صحة وغداء
الإثنين 18 يناير 2016 - 11:47 من طرف ouahid
» عيد يناير أو عندما تتحد البدعة والظلال
الثلاثاء 12 يناير 2016 - 9:29 من طرف ouahid